فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَإِذَا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا أَبْقَاهُمْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ مُسْلِمُونَ أَبْقَاهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمْ وَقولهُ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ فِي أَصْلَابِهِمْ قَدْ وَلَدُوهُمْ وَزَايَلُوهُمْ لَقَدْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفَّارِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَجَبَ جَوَازُ مِثْلِهِ إذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْحَالَيْنِ رَمْيُ الْمُشْرِكِينَ دُونَهُمْ وَمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أُصِيبَ بِرَمْيِ حُصُونِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي الْحِصْنِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَنَا الرَّمْي مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، فَصَارُوا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَتْ الْمَعَرَّةُ الْمَذْكُورَةُ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً؛ إذْ لَا دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْغَمِّ وَالْحَرَجِ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَلَى يَدِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِمَّنْ يَتَّفِقُ عَلَى يَدِهِ ذَلِكَ وَقول مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعَيْبِ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعَابُ فِي الْعَادَةِ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْخَطَإِ عَلَى يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ.
قوله تعالى: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ} قِيلَ: إنَّهُ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ أَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَهُ، وَأَمْلَى عَلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَأَبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقالوا: نَكْتُبُ بِاسْمِك اللَّهُمَّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَنَعُوهُ دُخُولَهُ مَكَّةَ فَكَانَتْ أَنَفَتُهُمْ مِنْ الْإقرار بِذَلِكَ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَعَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ وَقال مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قولهِ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قال أَبُو بَكْرٍ: الْمَقْصِدُ إخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمَنِينَ مُتَقَرِّبِينَ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَعَهُ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا قُرْبَةٌ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ الْإِحْلَالَ بِهِمَا يَقَعُ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلذِّكْرِ هاهنا وَجْهٌ.
وَرَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قُرْبَةٌ وَنُسُكٌ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْ الْإِحْرَامِ.
آخِرُ سُورَةِ الْفَتْحِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الْفَتْحِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قوله: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ} قِيلَ: هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ: جُهَيْنَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، وَغَفَّارَ، وَأَسْلَمَ: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ.
الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمْ الْعَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ.
فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ، وَجَاءَتْ الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارًا بِالْغَيْبِ الْآتِي، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَدَلَّتْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لِأَنَّ الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا، وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعْذِبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ؛ وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ الْأَنَفَةُ، وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فِيهِ قولانِ: أَحَدُهُمَا مَنْحَرُهُ.
الثَّانِي: الْحَرَمُ؛ قالهُ الشَّافِعِيُّ.
وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحِلًّا لِلْعُذْرِ، وَنَحَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِيهِ بِإِذْنِ اللَّهِ تعالى وَقَبُولِهِ وَإِبْقَائِهِ سُنَّةً بَعْدَهُ لِمَنْ حُبِسَ عَنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ كَمَا صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
المسألة الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} بِمَكَّةَ، فَخِيفَ وَطْؤُكُمْ لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَأَدْخَلْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، وَمَلَكْنَاكُمْ الْبَلَدَ قَسْرًا، وَلَكِنَّا صُنَّا مَنْ كَانَ فِيهَا يَكْتُمُ إيمَانَهُ خَوْفًا، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَجْزٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حِكْمَةٍ.
المسألة الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تَفْصِيلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قولهَا: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
المسألة الْخَامِسَةُ قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
تنبيه عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إذَايَةُ الْكَافِرِ إلَّا بِإِذَايَةِ الْمُؤْمِنِ.
وَقال أَبُو زَيْدٍ: قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ؛ أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا يُحْرَقُ؟ قال: سَمِعْت مَالِكًا وَسَأَلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَرْمُونَ فِي مَرَاكِبِهِمْ أَخَذُوا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَدْرَكَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوهُمْ وَمَرَاكِبَهُمْ بِالنَّارِ وَمَعَهُمْ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَقال: فَقال مَالِكٌ: لَا أَرَى ذَلِكَ، لِقولهِ تعالى لِأَهْلِ مَكَّةَ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
وَقال جَمَاعَةٌ: إنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا عَنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقوله تعالى: {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَهُوَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ لَا يُوطَأُ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ مَعَرَّةٌ، وَهُوَ سبحانه وَتَعَالَى قَدْ صَرَّحَ فَقال: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرَّجُلِ؛ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَعَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَبِي جُنْدُلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَكَذَلِكَ قال مَالِكٌ.
وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةً لِلرُّومِ، فَحَبَسَ عَنْهُمْ الْمَاءَ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ لَهُمْ الْمَاءَ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّبْلِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِنَا.
وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ.
الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِوَلَدِ مُسْلِمٍ رُمِيَ الْمُشْرِكُ وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ.
وَقال الثَّوْرِيُّ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ لَهُ.
وَقال الشَّافِعِيُّ بِقولنَا.
وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُبَاحِ بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ، وَلَا سِيَّمَا بِرُوحِ الْمُسْلِمِ، فَلَا قول إلَّا مَا قالهُ مَالِكٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَة الرَّابِعَة قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قرابِهِ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَضِيَّةِ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ.
وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقولهِ تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ: فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقال لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قال: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ.
وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال لَهُ مِثْلَ مَا قال لِأَبِي بَكْرٍ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ.
قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي مِنْ الْخَيْرِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ.
المسألة الثَّالِثَةُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قولهُ تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يَعْنِي عَلَامَتَهُمْ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيمَيَا، وَفِي الْحديث قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ مِنْ الْأُمَمِ؛ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».
رَوَيْت فِي هَذَا الْحديث بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهَا: وَقَدْ تُؤُوِّلَتْ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الثَّانِي: ثَرَى الْأَرْضِ؛ قالهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثَّالِثُ تَبْدُو صَلَاتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ؛ قالهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ؛ قالهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ.
الْخَامِسُ أَنَّهُ الْخُشُوعُ؛ قالهُ مُجَاهِدٌ.
السَّادِسُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ أَصْبَحَ وَجْهُهُ مُصْفَرًّا؛ قالهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَدْ قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ.
وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حديث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ.
وَقَدْ قال مَالِكٌ فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ؛ وَبِهِ قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَفِي الْحديث الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ.
وَفِي الْحديث الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ أَثَرِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تعالى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ آثَارَ السُّجُودِ».
وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: هُوَ الْخُشُوعُ.
قُلْت: هُوَ أَثَرُ السُّجُودِ، فَقال: إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْعَنْزِ، وَهُوَ كَمَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقال عُلَمَاءُ الْحديث: مَا مِنْ رَجُلٍ يَطْلُبُ الْحديث إلَّا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نَضْرَةٌ؛ لِقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرًَا سَمِعَ مَقالتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» الْحديث. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الفتح:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله}: متعلقٌ بفَتَحْنا، وهي لامُ العلةِ. وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: كيف جُعِل فتحُ مكةَ علةً للمغفرة؟ قلت: لم يُجْعَلْ علةً للمغفرةِ، ولكن لِما عَدَّد من الأمور الأربعة وهي: المغفرةُ، وإتمامُ النعمةِ، وهدايةُ الصراطِ المستقيمِ، والنصرُ العزيزُ؛ كأنه قال: يَسَّرْنا لك فتح مكة ونَصَرْناك على عدوِّك؛ لنجمعَ لك بين عِزِّ الدارَيْن وأغراضِ العاجلِ والآجل. ويجوزُ أَنْ يكونَ فَتْحُ مكةَ من حيث إنَّه جهادٌ للعدو سببًا للغفران والثواب. وهذا الذي قاله مخالِفٌ لظاهرِ الآية؛ فإنَّ اللامَ داخلةٌ على المغفرة، فتكونُ المغفرةُ علةً للفتح، والفتحُ مُعَلَّلٌ بها، فكان ينبغي أَنْ يقول: كيف جُعِل فتحُ مكةَ مُعَلَّلًا بالمغفرةِ؟ ثم يقول: لم يُجْعَلْ مُعَلَّلًا. وقال ابنُ عطية: المرادُ هنا أنَّ اللَّهَ تعالى فَتَح لك لكي يجعلَ الفتح علامةً لغفرانه لك، فكأنها لامُ صيرورة وهذا كلامٌ ماشٍ على الظاهر. وقال بعضُهم: إنَّ هذه اللامُ لامُ القسمِ والأصلُ: لَيَغْفِرَنَّ فكُسِرَتْ اللامُ تشبيهًا ب لام كي، وحُذِفَتْ النونُ. ورُدَّ هذا: بأنَّ اللامَ لا تُكْسَرُ. وبأنَّها لا تَنْصِبُ المضارعَ. وقد يقال: إنَّ هذا ليس بنصبٍ، وإنما هو بقاءُ الفتحِ الذي كان قبل نونِ التوكيد، بقي ليدُلَّ عليها، ولكنه قول مردودٌ.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}.
قوله: {لِّيُدْخِلَ}: في متعلَّق هذه اللامِ أربعةُ أوجهٍ، أحدها: محذوفٌ تقديرُه: يَبْتَلي بتلك الجنود مَنْ شاء فيقبلُ الخيرَ مِمَّنْ أهَّله له، والشرَّ مِمَّنْ قضى له به ليُدْخِلَ ويُعَذِّب. الثاني: أنها متعلقةٌ بقوله: {إنَّا فَتَحْنا}.
الثالث: أنَّها متعلقةٌ ب {يَنْصُرَك}.
الرابع: أنها متعلقة ب {يَزْدادوا}. واسْتُشْكل هذا: بأنَّ قوله تعالى: {ويُعَذِّبَ} عطفٌ عليه، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّبًا عن تعذيبِ اللَّهِ الكفارَ. وأجيب: بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفارَ يزيدُ في إيمانِهم لا محالة. وقال الشيخ: والازديادُ لا يكونُ سببًا لتعذيب الكفارِ. وأُجيب: بأنَّه ذُكِر لكونِه مقصودًا للمؤمنِ.
كأنه قيل: بسببِ ازديادِكم في الإِيمانُ يُدْخِلُكم الجنة، ويُعَذِّبُ الكفار بأيديكم في الدنيا.
وفيه نظرٌ؛ كان ينبغي أن يقول: لا يكونُ مُسَبَّبًا عن تعذيب الكفارِ، وهذا يُشْبِهُ ما تقدَّم في {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} [الفتح: 2].
قوله: {عندَ الله} متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنه حال مِنْ {فوزًا} لأنَّه صفتُه في الأصل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكون ظرفًا لمكانٍ، وفيه خلافٌ، وأَنْ يكونَ ظرفًا لمحذوفٍ دَلَّ عليه الفوز أي: يفوزون عند اللَّهِ. ولا يتعلَّق ب {فَوْزًا} لأنَّه مصدرٌ؛ فلا يتقدَّم معمولُه عليه. ومَنْ اغْتَفَر ذلك في الظرفِ جَوَّزَه.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)}.
قوله: {الظآنين بالله}: صفةٌ للفريقَيْن. وتقدَّم الخلافُ في {السوء} في التوبة. وقرأ الحسن {السُّوء} بالضم فيهما.
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}.
قوله: {لِّتُؤْمِنُواْ}: قرأ {ليؤمنوا} وما بعده بالياء مِنْ تحت ابنُ كثير وأبو عمروٍ رُجوعًا إلى قوله: {المؤمنين والمؤمنات}.
والباقون بتاءِ الخطاب. وقرأ الجحدري {تَعْزُرُوْه} بفتح التاء وضمِّ الزاي. وهو أيضًا وجعفر بن محمد كذلك إلاَّ أنهما كسرا الزاي. وابنُ عباس واليماني {ويُعَزِّرُوه} كالعامَّةُ، إلاَّ أنه بزاءَيْن من العزَّة. والضمائر المنصوبةُ راجعةٌ إلى الله تعالى.
وقيل: على الرسول إلاَّ الأخيرَ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}.
قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله}: خبرُ {إن الذين}.
و{يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} جملةٌ حاليةٌ، أو خبرٌ ثانٍ. وهو ترشيحٌ للمجازِ في مبايعةِ الله. وقرأ تمام بن العباس {يُبايعون الله}. والمفعولُ محذوفٌ أي: إنما يبايعونك لأجل الله.
قوله: {يَنْكُثُ} قرأ زيد بن علي {يَنْكِثُ} بكسر الكاف. والعامَّةُ على نصب الجلالة المعظمة. ورَفَعَها ابنُ أبي إسحاق على أنَّه تعالى عاهدهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {فَسَنُؤْتيه} بنون العظمة. والباقون بالياءِ مِنْ تحت. وقرئ {عَهِد عليه} ثلاثيًا.
{سَيَقول لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}.
قوله: {شَغَلَتْنَآ}: حكى الكسائيُّ عن ابن نُوح أنه قرأ {شَغَّلَتْنا} بالتشديد.
قوله: {ضَرًَّا} قرأ الأخَوان بضم الضاد. والباقون بفتحها فقيل: لغتان بمعنى كالفُقْر والفَقْر، والضُّعْف والضَّعْف. وقيل: بالفتح ضد النفع، وبالضم سوءُ الحال.